فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (49- 50):

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما أمر سبحانه بإبلاغ أوامره من غير التفات إلى أحد غيره، وكان من المعلوم أنه لابد في ذلك من محاولات ومنازعات، لا يقوم بها إلا من أعرض عن الخلائق، لما هو مشاهد له من عظمة الخالق، أمر سبحانه بالتوكل عليه، وأقام الدليل الشهودي بقصة الأحزاب وقريظة على كفاية لمن أخلص له، فلما تم الدليل رجع إلى بيان ما افتتح به السورة من الأحكام بعد إعادة الأمر بالتوكل، فذكر أقرب الطلاق إلى معنى المظاهرة المذكورة أول السورة بعد الأمر بالتوكل التي محط قصدها عدم قربان المظاهر عنها بعد أن كان أبطل المظاهرة.
فقال ناهيًا لمن هو في أدنى أسنان الإيمان بعد بشارة المؤمنين قاطعًا لهم عما كانوا يشتدون به في التحجر على المرأة المطلقة لقصد مضاجرتها أو تمام التمكن من التحكم فيه: {يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا ذلك {إذا نكحتم} أي عاقدتم، أطلق اسم المسبب على السبب فقد صار فيه حقيقة شرعية {المؤمنات} أي الموصوفات بهذا الوصف الشريف المقتضي لغاية الرغبة فيهن وأتم الوصلة بينكم وبينهن.
ولما كان طول مدة الحبس بالعقد من غير جماع لا يغير الحكم في العدة وإن غيرها في النسب بمجرد إمكان الوطىء، وكان الطلاق لا يكون إلا بعد النكاح وبعد حل الوطىء بالنكاح، أشار إليه بحرف التراخي فقال: {ثم طلقتموهن} أي بحكم التوزيع، وقيل لابن عباس: إن ابن مسعود رضى الله عنه م يقول بصحة تعليق الطلاق قبل النكاح فقال: زلة علم- وتلا هذه الآية.
ولما كان المقصود نفي المسيس في هذا النكاح لا مطلقًا، وكانت العبرة في إيجاب المهر بنفس الوطىء لا بإمكانه وإن حصلت الخلوة، أدخل الجار فقال: {من قبل أن تسموهن} أي تجامعوهن، أطلق المسّ على الجماع لأنه طريق له كما سمي الخمر إثمًا لأنها سببه.
ولما كانت العدة حقًا للرجال قال: {فما لكم} ولما كانت العدة واجبة، عبر بأداة الاستعلاء فقال: {عليهن} وأكد النفي بإثبات الجار في قوله: {من عدة} ودل على اعتيادهم ذلك ومبالغتهم فيه والمضاجرة به كما في الظهار بالافتعال فقال: {تعتدونها} أي تتكلفون عدها وتراعونه، وروي عن ابن كثير من طريق البزي شاذًا بتخفيف الدال بمعنى تتكلفون الاعتداء بها على المطلقة.
ولما كان هذا الحكم- الذي معناه الانفصال- للمؤمنات اللاتي لهن صفات تقتضي دوام العشرة وتمام الاتصال، كان ذلك للكتابيات من باب الأولى، وفائدة التقييد الإرشاد إلى أنه لا ينبغي العدول عن المؤمنات بل ولا عن الصالحات من المؤمنات.
ولما كان الكلام كما أشير إليه في امرأة قريبة من المظاهر عنها، وكان ما خلا من الفرض للصداق أقرب إلى ذلك، سبب عما مضى قوله: {فمتعوهن} ولم يصرح بأن ذلك لغير من سمى لها لتدخل المسمى لها في الكلام على طريق الندب مع ما لها من نصف المسمى كما دخلت الأولى وجوبًا {وسرحوهن} أي أطلقوهن ليخرجن من منازلكم ولا تعتلوا عليهن بعلة {سراحًا جميلًا} بالإحسان قولًا وفعلًا من غير ضرار بوجه أصلًا ليتزوجهن من شاء.
ولما كان النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وكان المراد الأعظم في هذه الآيات بيان ما شرفه الله به من ذلك، أتبع ما بين أنه لا عدة فيه من نكاح المؤمنين وما حرمه عليهم من التضييق على الزوجات المطلقات بعض ما شرفه الله تعالى به وخصه من أمر التوسعة في النكاح، وختمه بأن أزواجه لا تحل بعده، فهن كمن عدتهن ثابتة لا تنقضي أبدًا، أو كمن زوجها غائب عنها وهو حي، لأنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره: {يا أيها النبي} ذاكرًا سبحانه الوصف الذي هو مبدأ القرب ومقصوده ومنبع الكمال ومداره.
ولما كان الذين في قلوبهم مرض ينكرون خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أكد قوله: {إنا أحللنا لك أزواجك} أي نكاحهن، قال الحرالي في كتابه في أصول الفقه: تعليق الحكم بالأعيان مختص بخاص مدلولها نحو حرمت أو حللت المرأة أي نكاحها، والفرس أي ركوبه، والخمر أي شربها، ولحم الخنزير أي أكله، والبحر أي ركوبه، والثور أي الحرث به، وكذلك كل شيء يختص بخاص مدلوله، ولا يصرف عنه إلا بمشعر، ولا إجمال فيه لترجح الاختصاص- انتهى.
ولما كان المقصود من هذه السورة بيان مناقبه صلى الله عليه وسلم وما خصه الله به مما قد يطعن فيه المنافقون من كونه أولى من كل أحد بنفسه وماله، بين أنه مع ذلك لا يرضى إلا بالأكمل، فبين أنه كان يعجل المهور، ويوفي الأجور، فقال: {اللاتي آتيت} أي بالإعطاء الذي هو الحقيقة، وهي به صلى الله عليه وسلم أولى أو بالتسمية في العقد قال الكشاف: وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم وما لا يعرف بينهم غيره {أجورهن} أي مهورهن لأنها عوض عن منفعة البضع، وأصل الأجر الجزاء على العمل {وما ملكت يمينك}.
ولما كان حوز الإنسان لما سباه أطيب لنفسه وأعلى لقدره وأحل مما اشتراه قال: {مما أفاء} أي رد {الله} الذي له الأمر كله {عليك} مثل صفية بنت حيي النضرية وريحانة القرظية وجويرية بنت الحارث الخزاعية رضى الله عنه ن مما كان في أيدي الكفار، أسنده إليه سبحانه إفهامًا لأنه فيء على وجهه الذي أحله الله لا خيانة فيه، وعبر بالفيء الذي معناه الرجوع إفهامًا لأن ما في يد الكافر ليس له وإنما هو لمن يستلبه منه من المؤمنين بيد القهر أو لمن يعطيه الكافر منهم عن طيب نفس، ومن هنا كان يعطي النبي صلى الله عليه وسلم ما يطلب منه من بلاد الكفار أو نسائهم، وما أعطى أحدًا شيئًا إلا وصل إليه كتميم الداري وشويل- رضى الله عنهما-، وقيد بذلك تنبيهًا على فضله صلى الله عليه وسلم ووقوعه من كل شيء على أفضله كما تقدمت الإشارة إليه، وإشارة إلى أنه سبق في علم الله أنه لا يصل إليه من ملك اليمين إلا ما كان هذا سبيله، ودخل فيه ما أهدى له من الكفار مثل مارية القبطية أم ولده إبراهيم عليه السلام، وفي ذلك أيضًا إشارة إلى ما خصه به من تحليل ما كان خطره على من كان قبله من الغنائم {وبنات عمك} الشقيق وغيره من باب الأولى، فإن النسب كلما بعد كان أجدر بالحل.
ولما كان قد أفرد العم لأن واحد الذكور يجمع من غيره لشرفه وقوته وكونه الأصل الذي تفرع منه هذا النوع، عرف بجميع الإناث أن المراد به الجنس لئلا يتوهم أن المراد إباحة الأخوات مجتمعات فقال: {وبنات عماتك} من نساء بني عبد المطلب.
ولما بدأ بالعمومة لشرفها، أتبعها قوله: {وبنات خالك} جاريًا أيضًا في الإفراد والجمع على ذلك النحو: {وبنات خالاتك} أي من نساء بني زهرة ويمكن أن يكون في ذلك احتباك عجيب وهو: بنات عمك وبنات أعمامك، وبنات عماتك وبنات عمتك، وبنات خالك وبنات أخوالك، وبنات خالاتك وبنات خالتك، وسره ما أشير إليه.
ولما بين شرف أزواجه من جهة النسب لما علم واشتهر أن نسبه صلى الله عليه وسلم من جهة الرجال والنساء أشرف الأنساب بحيث لم يختلف في ذلك اثنان من العرب، بين شرفهن من جهة الإعمال فقال: {اللاتي هاجرن} وأشار بقوله: {معك} إلى أن الهجرة قبل الفتح {أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} [الحديد: 10] ولم يرد بذلك التقييد بل التنبيه على الشرف، وإشارة إلى أنه سبق في عمله سبحانه أنه لا يقع له أن يتزوج من هي خارجة عن هذه الأوصاف، وقد ورد أن هذا على سبيل التقييد؛ روى الترمذي والحاكم وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه والطبراني والطبري وابن أبي حاتم كلهم من رواية السدي عن أبي صالح عن أم هانئ بنت أبي طالب رضى الله عنها قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني ثم أنزل الله تعالى: {إنا أحللنا لك أزواجك}- الآية، فلم أكن لأحل له لأني لم أهاجر.
كنت من الطلقاء قال الترمذي: حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث السدي.
ولما بين ما هو الأشرف من النكاح لكونه الأصل، وأتبعه سبحانه ما خص به شرعه صلى الله عليه وسلم من المغنم الذي تولى سبحانه إباحته، أتبعه ما جاءت إباحته من جهة المبيح إعلامًا بأنه ليس من نوع الصدقة التي نزه عنها قدره فقال: {وامرأة} أي وأحللنا لك امرأة {مؤمنة} أي هذا الصنف حرة كانت أو رقيقة {إن وهبت نفسها للنبي}.
ولما ذكر وصف النبوة لأنه مدار الإكرام من الخالق والمحبة من الخلائق تشريفًا له به وتعليقًا للحكم بالوصف، لأنه لو قال لك كان ربما وقع في بعض الأوهام- كما قال الزجاج- أنه غير خاص به صلى الله عليه وسلم، كرره بيانًا لمزيد شرفه في سياق رافع لما ربما يتوهم من أنه يجب عليه القبول فقال: {إن أراد النبي} أي الذي أعلينا قدره بما اختصصناه به من الإنباء بالأمور العظمية من عالم الغيب والشهادة {أن يستنكحها} أي يوجد نكاحه لها يجعلها من منكوحاته بعقد أو ملك يمين، فتصير له مجرد ذلك بلا مهر ولا ولي ولا شهود.
ولما كان ربما فهم أن غيره يشاركه في هذا المعنى، قال مبينًا لخصوصيته واصفًا لمصدر {أحللنا} مفخمًا للأمر بهاء المبالغة ملتفتًا إلى الخطاب لأنه معين للمراد رافع للارتياب: {خالصة لك} وزاد المعنى بيانًا بقوله: {من دون المؤمنين} أي من الأنبياء وغيرهم، وأطلق الوصف المفهم للرسوخ فشمل من قيد بالإحسان والإيقان، وغير ذلك من الألوان، دخل من نزل عن رتبتهم من الذين يؤمنون والذين آمنوا وسائر الناس من باب الأولى مفهوم موافقة، وقد كان الواهبات عدة ولم يكن عنده منهن شيء.
روى البخاري عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أما تستحيي المرأة أن تهب نفسها، فلما نزلت {ترجى من تشاء منهن} قلت: يا رسول الله، ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
ولما كان التخصيص لا يصح ولا يتصور إلا من محيط العلم بأن هذا الأمر ما كان لغير المخصوص تام القدرة، ليمنع غيره من ذلك، علله بقوله: {قد} أي أخبرناك بأن هذا أمر يخصك دونهم لأنا قد {علمنا ما فرضنا} أي قدرنا بعظمتنا.
ولما كان ما قدره للإنسان عطاء ومنعنا لابد له منه، عبر فيه بأداة الاستعلاء فقال: {عليهم} أي المؤمنين {في أزواجهم} أي من أنه لا تحل لهم امرأة بلفظ الهبة منها ولا بدون مهر ولا بدون ولي وشهود، وهذا عام لجميع المؤمنين المتقدمين والمتأخرين.
ولما كان هذا عامًا للحرة والرقيقة قال: {وما ملكت أيمانهم} أي من أن أحدًا غيرك لا يملك رقيقة بهبتها لنفسها منه، فيكون أحق من سيدها.
ولما فرغ من تعليل الدونية، علل التخصيص لفًا ونشرًا مشوشًا بقوله: {لكيلا يكون عليك حرج} أي ضيق في شيء من أمر النساء حيث أحللنا لك أنواع المنكوحات وزدناك الواهبة.
ولما ذكر سبحانه ما فرض في الأزواج والإماء الشامل للعدل في عشرتهن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلى الناس فهمًا وأشدهم لله خشية، وكان يعدل بينهن، ويعتذر مع ذلك من ميل القلب الذي هو خارج عن طوق البشر بقوله «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك» خفف عنه سبحانه بقوله: {وكان الله} أي المتصف بصفات الكمال من الحلم والأناة والقدرة وغيرها أزلًا وأبدًا {غفورًا رحيمًا} أي بليغ الستر فهو أن شاء يترك المؤاخذة فيما له أن يؤاخذ به، ويجعل مكان المؤاخذة الإكرام العظيم متصفًا بذلك أزلًا وأبدًا. اهـ.

.قال الفخر:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ}.
وجه تعلق الآية بما قبلها:
هو أن الله تعالى في هذه السورة ذكر مكارم الأخلاق وأدب نبيه على ما ذكرناه، لكن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بما أمر به نبيه المرسل فكلما ذكر للنبي مكرمة وعلمه أدبًا ذكر للمؤمنين ما يناسبه، فكما بدأ الله في تأديب النبي عليه الصلاة والسلام بذكر ما يتعلق بجانب الله بقوله: {يا أيها النبى اتق الله} [الأحزاب 1] وثنى بما يتعلق بجانب من تحت يده ده من أزواجه بقوله بعد: {يا أيها النبى قُل لأزواجك} [الأحزاب: 28] وثلث بما يتعلق بجانب العامة بقوله: {يا أيها النبى إِنَّا أرسلناك شَاهِدًا} [الأحزاب: 45] كذلك بدأ في إرشاد المؤمنين بما يتعلق بجانب الله فقال: {يا أيها الذين ءامَنُواْ اذكروا الله ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41] ثم ثنى بما يتعلق بجانب من تحت أيديهم بقوله: {يا أيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات} ثم كما ثلث في تأديب النبي بجانب الأمة ثلث في حق المؤمنين بما يتعلق بجانب نبيهم، فقال بعد هذا: {يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبى} [الأحزاب: 53] وبقوله: {يا أيها الذين ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56].

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
إذا كان الأمر على ما ذكرت من أن هذا إرشاد إلى ما يتعلق بجانب من هو من خواص المرء فلم خص المطلقات اللاتي طلقن قبل المسيس بالذكر؟ فنقول هذا إرشاد إلى أعلى درجات المكرمات ليعلم منها ما دونها وبيانه هو أن المرأة إذا طلقت قبل المسيس لم يحصل بينهما تأكد العهد، ولهذا قال الله تعالى في حق الممسوسة {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظًا} [النساء: 21] وإذا أمر الله بالتمتع والإحسان مع من لا مودة بينه وبينها فما ظنك بمن حصلت المودة بالنسبة إليها بالإفضاء أو حصل تأكدها بحصول الولد بينهما والقرآن في الحجم صغير ولكن لو استنبطت معانيه لا تفي بها الأقلام ولا تكفي لها الأوراق، وهذا مثل قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ} [الإسراء: 23] لو قال لا تضربهما أو لا تشتمهما ظن أنه حرام لمعنى مختص بالضرب أو الشتم، أما إذا قال لا تقل لهما أف علم منه معان كثيرة وكذلك هاهنا لما أمر بالإحسان مع من لا مودة معها علم منه الإحسان مع الممسوسة ومن لم تطلق بعد ومن ولدت عنده منه.
وقوله: {إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات} التخصيص بالذكر إرشاد إلى أن المؤمن ينبغي أن ينكح المؤمنة فإنها أشد تحصينًا لدينه، وقوله: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} يمكن التمسك به في أن تعليق الطلاق بالنكاح، لا يصح لأن التطليق حينئذ لا يكون إلا بعد النكاح والله تعالى ذكره بكلمة ثم، وهي للتراخي وقوله: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} بين أن العدة حق الزوج فيها غالب وإن كان لا يسقط بإسقاطه لما فيه من حق الله تعالى، وقوله: {تَعْتَدُّونَهَا} أي تستوفون أنتم عددها {فَمَتّعُوهُنَّ} قيل بأنه مختص بالمفوضة التي لم يسم لها إذا طلقت قبل المسيس وجب لها المتعة، وقيل بأنه عام وعلى هذا فهو أمر وجوب أو أمر ندب اختلف العلماء فيه، فمنهم من قال للوجوب فيجب مع نصف المهر المتعة أيضًا، ومنهم من قال للاستحباب فيستحب أن يمتعها مع الصداق بشيء، وقوله تعالى: {وَسَرّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} الجمال في التسريح أن لا يطالبها بما آتاها.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ}.
ذكر للنبي عليه السلام ما هو الأولى فإن الزوجة التي أوتيت مهرها أطيب قلبًا من التي لم تؤت، والمملوكة التي سباها الرجل بنفسه أطهر من التي اشتراها الرجل لأنها لا يدري كيف حالها، ومن هاجرت من أقارب النبي عليه السلام معه أشرف ممن لم تهاجر، ومن الناس من قال بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجب عليه إعطاء المهر أولًا، وذلك لأن المرأة لها الامتناع إلى أن تأخذ مهرها والنبي عليه السلام ما كان يستوفي ما لا يجب له، والوطء قبل إيتاء الصداق غير مستحق وإن كان حلالا لنا وكيف والنبي عليه السلام إذا طلب شيئًا حرم الامتناع عن المطلوب والظاهر أن الطالب في المرة الأولى، إنما يكون هو الرجل لحياء المرأة فلو طلب النبي عليه السلام من المرأة التمكين قبل المهر للزم أن يجب وأن لا يجب وهذا محال ولا كذلك أحدنا، وقال ويؤكد هذا قوله تعالى: {وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىّ} يعني حينئذ لا يبقى لها صداق فتصير كالمستوفية مهرها، وقوله تعالى: {إِنْ أَرَادَ النبى أَن يَسْتَنكِحَهَا} إشارة إلى أن هبتها نفسها لابد معها من قبول وقوله تعالى: {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين} قال الشافعي رضي الله عنه معناه إباحة الوطء بالهبة وحصول التزوج بلفظها من خواصك، وقال أبو حنيفة تلك المرأة صارت خالصة لك زوجة ومن أمهات المؤمنين لا تحل لغيرك أبدًا، والترجيح يمكن أن يقال بأن على هذا فالتخصيص بالواهبة لا فائدة فيه فإن أزواجه كلهن خالصات له وعلى ما ذكرنا يتبين للتخصيص فائدة وقوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ في أزواجهم وَمَا مَلَكَتْ أيمانهم} معناه أن ما ذكرنا فرضك وحكمك مع نسائك وأما حكم أمتك فعندنا علمه ونبينه لهم وإنما ذكر هذا لئلا يحمل واحد من المؤمنين نفسه على ما كان للنبي عليه الصلاة والسلام فإن له في النكاح خصائص ليست لغيره وكذلك في السراري.
وقوله تعالى: {لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} أي تكون في فسحة من الأمر فلا يبقى لك شغل قلب فينزل الروح الأمين بالآيات على قلبك الفارغ وتبلغ رسالات ربك بجدك واجتهادك، وقوله تعالى: {وَكَانَ الله غفورًا رَّحِيمًا} يغفر الذنوب جميعًا ويرحم العبيد. اهـ.